إشــراقــة

 

 

 

 

 

الإنجازُ في الواقع أن تَحْظَى بالتوفيق لمواصلة العمل في المسار الصحيح

 

 

 

 


        كثيرٌ من الناس ينزعجون إذا لم يَتَمَكَّنُوا من إنجاز هدف مُحَدَّد تَصَدَّوْا له، ويأسفون كثيرًا؛ بل يَقْلَقُون على أنّهم لم يُتَحْ لهم أن يُحَقِّقوا ما هَدَفُوا إليه، رغمَ أنّهم بذلوا كلَّ ما كانوا يستطيعون من الجهد والوقت والفرصة المتاحة. ذلك لأنهم لم يتعلّموا أن التمتّع بالعمليّة المطلوبة لتحقيق هدف ما كان بصدد تحقيقه هو القيمة الحقيقيّة من وراء العمليّة التي قام بها والجهد الذي بذله. الإنجازُ في الواقع يبدأ من تركيز المرء حياته حول نوايا مُحَدَّدَة أو أفكار وأنشطة تتواكب حقًّا مع الغرض الخاصّ به، وحسبما تكون نواياه واضحة مترابطة مُتَّسِقة ذات مغزى تَتَوَفَّر لديه الوسائلُ الكافية لتحقيق ما كان يصبو إليه من الهدف، فيتمتّع بالسرور بالإنجاز بغضّ النظر عن أنّه حَقَّقَ كامل الهدفَ أو نصفَه أو ثلثَه أو...، أو لم يحققه ألبَتَّة.

        إنّ المهمّ هو التوفيق للعمل المتّصل والسير المُتَّسِق على المستوى المطلوب في المسار الخاصّ الذي يعنيه المرأَ وليس المهمّ هو السرعة التي يسير بها. ومثلُ هذا «المرء المُوَفَّق» يشعر شعورًا قويًّا بالسعادة أثناء الرحلة إلى الهدف، وليس عند الوصول إلى المنزل، أي إلى الهدف.

        المهمُّ أصلاً في رحلة الحياة أن يتعلّم المرأُ حبَّ العمل وعشقَ الاجتهاد من أجل إنجازه، وأن لا يَعْبَأَ بالإحباطات والإخفاقات تعترض سبيلَه، ويتمتّع بإنفاق كلِّ لحظة من أجل الوصول إلى ما يهواه من الهدف الذي رَمَىٰ إليه و وَضَعَه نُصْبَ عينيه لدى بدء الرحلة. مواصلةُ العمل والاجتهاد دونما فتور هو المكسبُ الكبيرُ، والمتعةُ التي لامتعة بعدها، واللذّةُ اللذيذة التي تُسْعِد الراكضَ وراء تحقيق هدف ما انبرى له وتَوَفِّر عليه فكرًا وسلوكاً. أن تَسْعَد بالتوفيق للسير نحو المطلب الذي تودّ إنجازَه هو النجاح قبل النجاح النهائيّ الذي تَرْصُده، والنجاحُ الأول هو النجاح المستمر المتصل الممتدّ الذي يجعل المرأَ لا يُمْنَىٰ أبدًا بشعور بإخفاق، مهما لم يكسب النجاحَ النهائي الـمُتَمَثِّل في إحراز الهدف الـمُحَدَّد الذي يحسب أن تحقيقه هو الإنجاز الذي يستحقّ التسجيلَ والتقديرَ.

        المُحِبُّ للعمل والركض في سبيل تحقيق غاية، لا يَمَلُّ من العمل والسعي مهما لم يتمكن من تحقيق الغاية، لأنه يؤمن بأن العمل هو الغاية قبل الغاية، والتوفيق للعمل الدؤوب هو القيمة الكبرى في الحياة، والنعمة العظمى التي لا يُلَقَّاها إلاّ المحظوظُ السعيدُ الذي يدرك إدراكاً عميقًا طبيعةَ البطالة ونحسَها التي يُمْنَىٰ بها من لا يجد شغلاً كريمًا رغم كل محاولة يبذلها؛ فالمُعَانِي للبطالة يستثقل لحظات اليوم والليلة التي يستطيلها رغم كونها معدودةً بالثواني والدقائق والساعات، بينما المشتغلُ بعمل من الأعمال المُتَوَفِّر على تحقيق هدف يستقلّها؛ لأنها تنقضي عليه بسرعة البرق الخاطف، كأنها لا تشتمل على المسافة الزمانية التي تُحَاسَب بأربع وعشرين ساعة.

        وجدنا بعض الناس يتـبرّم بالشغل عنـدما يجده لا يُؤَدِّي إلى كسب الهدف الذي حَدَّه والغرض الذي تَوَخّاه من ورائه، فيعُدُّ نفسه شقيًّا لا يحالفه الحظُّ، فربّما يتخلّى عن الشغل أو يظلّ يقوم به على كره منه؛ ولكنه يبقى يلوم حظَّه ويندب جَدَّه. ولاشكّ أنّ أمثال هؤلاء ممن لا يدركون قيمةَ العمل إذا كان مساره مستقيمًا متواكبًا بكل معنى مع الغرض الذي يعنيهم. حبُّ العمل وإدراكُ قيمته وأهميّته هو بدوره نعمةٌ عظيمةٌ؛ لأنه الحبّ يدفع إلى الاستمرار في المسار، ويُزَوِّد بالأمل المشرق في قلب العامل إشراقة النهار الباسم، ويدفع عنه السآمةَ والملَ وكلَّ شيء يأتي في معنى الكلمة، ويُوَفِّر له السعادةَ في الحياة، ويُؤَكِّد له أن لها معنى، وأنّها لا تشتمل على عَبَثِيَّة.

        تعلّمنا من أساتذتنا الصلحاء أن نداوم على العمل والتحرّك إذا كان إيجابيًّا منصـبًا في قناة الغرض الذي تَبَنَّيْنَاه واستهدفناه من ورائه، مهما لاقينا إخفاقاتٍ في المسار الذي نسير فيه؛ لأن العامل هو الذي يواجه نجاحات أو إخفاقات، أما المُعَانِي للبطالة واللاشغل فلا يُقَابِل أيًّا منها؛ لأنها مَعَانٍ تسقط من حساب اللاّعامل الذي لايمارس شغلاً. والإخفاقاتُ التي تعترض سبيلَ الراكض في سبيل الهدف، هي طبيعيّة تفتل أعضاءَه، وتُقَوِّي عضلاته، وتهب له المناعةَ ضدّ السلبيات، وتجعله يُتْقِن العملَ، ويصير أقدرَ على تحقيق الهدف في أحسن صوره وأسمى أساليبه. يجوز أن يقال: إن النجاح الباهر الجليل هو نصيب من يُقَابَل فإخفاقات في سبيل تحقيقه، ومن يُفَاجَأ بالنجاح دونما إخفاق قد يكون نجاحه فِجًّا غيرَ ناضبح لا ينزل على مستوى التقدير والتسجيل والذكر في المحافل والنوادي وسجلّ الخلود.

        التمتّعُ بالعمل المتواصل في المسار الصحيح المُؤَدِّي إلى تحقيق الهدف، هو بنفسه نعمةٌ ممتعةٌ و رصيدٌ يكسبه المرأُ في الطريق؛ حيث يشعر أنه قد حاز الخير وحَقَّقَ مُبَشِّرَاتِ النجاح والوصول المُؤَكَّد إلى الهدف الذي يهمّه، فلا يعنيه التركيزُ حصرًا على ما يتعيّن القيامُ به من أجل التسارع إلى الهدف؛ لأنه يتأكّد أن العمل الصادق المُخْلَص المُعْتَصَر فيه الجهدُ المستطاعُ والطاقةُ المذخورةُ لابدَّ أن يُؤَدِّيَه إلى النتيجة المرضيّة: إلى الهدف الذي رَمَىٰ إليه ورَصَدَه لدى البدء في العمل واستهلالِ السير في المسار المستقيم.

        لذّةُ العمل المستمرّ إحدى الحسنيين وعُجْلَى النعمتين، قبل حسنى الفوز بالغرض المنشود. إن الذي لم يَلَذَّ الأولى لا يحق له أن يحظى بالثانية؛ لأنه ليس مُؤَهَّلاً لها في الواقع، وإهداؤها الحسنى الثانية إليه هو في الواقع أن يصنع الرجلُ المعروفَ في غير أهله.

        لتعويدنا العملَ وحبَّه والتمتَّعَ به والحرصَ عليه كان أساتذتنا يقولون لنا: لا تَأْسَفُنَّ على الفشل حتى في الامتحان ما دمتم قد بذلتم الجهد المطلوب في استظهار الموادّ ومذاكرة الدروس والتحضير لأداء الامتحان على المستوى اللازم؛ لأنكم إذًا تكونون قد أديتم المسؤولية وبرئتم من الذمة، وأكثرُ وأحسنُ من ذلك أنكم قد أَجَدْتُمْ حفظ الموادَّ المدروسة ومراجعة الكتب المقروءة وأَتْقَنْتُم الأهليَّةَ. وذلك ما ينفعكم مستقبلاً ويُهَيِّئكم لمواجهة ما يواجهكم من قضايا الحياة التي تتطلب تجاوزَ امتحان ربما يكون أقسى من الامتحان العادي الذي تُؤَدُّونه في المواد الدراسيّة العاديّة. لقد كان بعضُ أساتذتنا يُكَلِّفوننا كتابةَ المقالات التحضيريّة للمجلات الحائطيّة التي كان يُصْدِرُها الطلاّب شهريًّا أو نصفَ شهري لترويض أنفسهم للكتابة والإنشاء وتخريجها عل الترسّل والتأليف، ويشجعوننا على ذلك بأن ننقل عن الكتب والمجلاّت بتغيير يسير؛ قائلين: إن هذه العملية ستُخَرِّجُكم يومًا ما كُتَّابًا قادرين. وإن اعترض عليكم أحدٌ في ذلك وقال: إنكم تأخذون عن الكُتُب والمجلاّت ولا تصنعون مقالات من عندكم؛ فقولوا له: لكم أن تَحْذُوا حَذْوَنا حتى تكونوا مثلَنا في السير على درب الكُتاب والمُؤَلِّفين، فيَتَمَهَّد السبيلُ إلى تخرّجكم كتابًا كتَمَهُّدِه لنا.

        وكذلك لدى المذاكرة كانوا يُوَجِّهُوننا أن نتنافس في القيام بالمذاكرة حتى نَتَخَرَّج مدرسين يقومون بالتدريس عن أهليّة ومقدرة، ويقدرون على نقل الإتقان العلمي إلى الطلاب بسهولة ويُحَوِّلُونهم نسخةً طبقَ الأصل منهم في التضلع من العلم والملكة العلميّة؛ بل يجعلونهم قد يفوقونهم في الأهليّة. كانوا يُرَكِّزُون علينا أن لانكون من الطلاب المستمعين للمارسين للمذاكرة الدراسية من الطلاب؛ لأن القائم بها هو الذي يتخرّج مدرسًا مؤهلاً، والمستمع له لا يَتَخَرَّج تَخَرُّجَه؛ حيث يظلّ غيرَ قادر على كسب المقدرة الكلامية التفهيمية.

        إن حبّ العمل والرغبة الجامحة فيه حظٌّ سعيدٌ فريدٌ لا يناله إلاّ السعداء الذين يولدون مُوَفَّقِين يريد الله بهم خيرًا ويشاء أن يكونوا منجزين لأعمال تنفعهم في الدنيا والآخرة، ويستفيد منها الناس، ويعمّ بها الصلاحُ المجتمعَ الإنسانيَّ، ثم يتأتى له إنجازُ هدف مُحَدَّد تبنّاه واستهدفه من وراء العمل الذي واصله والسعي الذي استمرّ فيه مُسْتَمْرِئًا جميع المصاعب والإخفاقات والمُثَبِّطَات التي واجهته خلال ركضه على المسار المستقيم.

 

(تحريرًا في الساعة 10:30 من صباح يوم الخميس: 29/صفر 1435هـ = 2/يناير 2014م)

أبو أسامة نور

nooralamamini@gmail.com

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دارالعلوم ديوبند ، ربیع الثانی  1435هـ = فبرایر 2014م ، العدد : 4 ، السنة : 38